يبدو أن التصعيد العسكري في محافظة إدلب السورية سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، ليس فقط في ضوء حرص النظام السوري، ومن خلفه إيران، على تبني الحل العسكري لتوسيع نطاق سيطرته على الأراضي السورية، وإنما أيضًا في ظل تزايد نفوذ "هيئة تحرير الشام"، الموالية لتنظيم "القاعدة"، داخل المحافظة، على نحو يتناقض مع التفاهمات السياسية والأمنية التي توصلت إليها الأطراف المعنية بتطورات الصراع في سوريا، ولا سيما روسيا وتركيا اللتين وقعتا اتفاقًا في سوتشي في 17 سبتمبر 2018 تضمن تثبيت وقف إطلاق النار في المحافظة وسحب الأسلحة الثقيلة التي تمتلكها المعارضة. وقد تحول هذا الاتفاق إلى محور خلاف بين الطرفين في الوقت الحالي، في ظل إصرار موسكو على تأكيد عزوف أنقرة عن تنفيذ التزاماتها بمقتضى الاتفاق.
آليات متعددة:
استندت "هيئة تحرير الشام"، التي كانت تسمى سابقًا "جبهة النصرة"، إلى آليات عديدة لفرض سيطرتها على المناطق المتواجدة بها داخل محافظة إدلب، يتمثل أبرزها في:
1- توسيع النفوذ: حرصت الهيئة خلال الفترة الماضية على توسيع نطاق سيطرتها في إدلب وغيرها من المناطق، من خلال تقليص نفوذ التنظيمات الإرهابية الأخرى، عبر إرغامها على إبرام اتفاقيات معها، أو الدخول معها في موجهات عسكرية إذا ما فشلت في ذلك، وهو ما يفسر المواجهات المتكررة بين الهيئة و"الجبهة الوطنية" التي تضم بعض الفصائل المسلحة، منذ مطلع يناير 2019.
وقد أسفرت تلك المواجهات في النهاية عن توقيع اتفاق بين الهيئة والجبهة، في 11 من الشهر نفسه، نص على "تبعية جميع المناطق في محافظة إدلب ومحيطها لحكومة الإنقاذ التي شكلتها الهيئة في المنطقة". وتوازى ذلك مع منح الهيئة مهلة 24 ساعة للفصائل التي تسيطر على مدينتى معرة النعمان وأريحا لتسليم المدينتين، حيث يسمح اتفاق الاستسلام بخروج المقاتلين الذين يرغبون في المغادرة إلى عفرين ومناطق درع الفرات، مع تسليم السلاح الثقيل والمتوسط والمباني التي كانوا يسيطرون عليها.
2- تكوين مليشيات موالية: وهو ما بدا جليًا في إعلان "مجلس شورى الشمال السوري" التابع لما يسمى بـ"حكومة الإنقاذ" الموالية لـ"هيئة تحرير الشام"، في 12 مايو الجاري، عن تشكيل ما أطلق عليه "سرايا المقاومة الشعبية" في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. وقد حرصت الهيئة على الترويج إلى أن تكوين تلك السرايا يهدف إلى إتاحة الفرصة للسوريين الراغبين في مواجهة الجيش الروسي والقوات النظامية، في حين أن الهدف الحقيقي من ذلك يكمن في سعى "الهيئة" إلى تعزيز موقعها داخل إدلب وغيرها من المناطق، استعدادًا للاستحقاقات المؤجلة التي سيكون العمل على مواجهتها وتقليص نفوذها أبرز عناوينها خلال المرحلة القادمة.
وقد كان لافتًا أن الحركة فتحت الباب أمام ضم تنظيمات أو مجموعات جديدة لها لمواجهة العمليات العسكرية التي يشنها النظام، حيث دعا زعيمها أبو محمد الجولاني، في مقابلة مصورة في 13 مايو الجاري، إلى "حمل السلاح للدفاع عن معقل الهيئة في إدلب"
3- أجندة مختلفة: يمكن القول إن مساحة الخلافات بين "هيئة تحرير الشام"، التي تعد أحد أذرع تنظيم "القاعدة" في سوريا، وتنظيم "داعش" لا تبدو واسعة، خاصة أنها تسعى، على غرار التنظيم الأخير، إلى إقامة ما يمكن تسميته بـ"إمارة متطرفة" في سوريا. لكن ثمة اختلافًا لا يمكن تجاهله في هذا السياق، يتمثل في أن "داعش" حاول التوسع بشكل سريع ومارس كل الأنشطة التي استقطبت اهتمام القوى الدولية بالمخاطر التي تفرضها تلك الأنشطة، في حين أن الهيئة تسعى إلى تحقيق أهدافها على مدى أطول، وتتبنى آليات مختلفة للوصول إلى ذلك، على غرار الاندماج داخل كتل إرهابية أكبر، بهدف استيعاب الضغوط التي تتعرض لها في بعض الأحيان.
4- إجراءات مشددة: اتجهت الهيئة خلال الشهور الأخيرة إلى توسيع نطاق الاعتقالات التعسفية خاصة ضد بعض الأشخاص الذين يعملون على توثيق الانتهاكات التي ترتكبها أو يعترضون على ما تتخذه من خطوات، بل إنها شنت حملة اغتيالات استهدفت نشطاء معروفين، بالتوازي مع منعها آلاف الطلاب السوريين من استكمال تعليمهم في المؤسسات التعليمية الموجودة في إدلب، حيث أعلنت، في فبراير 2019، عبر مجلس تربوي متعاون معها عن إغلاق جميع الجامعات غير المرخصة من جانبه، على نحو دفع الطلاب إلى تنظيم اعتصامات واحتجاجات لرفض تلك القرارات.
5- الحشد التنظيمي: سعت الهيئة إلى حشد عدد من التشكيلات المسلحة الموالية لها جنوب منطقة خفض التصعيد في إدلب، وهو ما ساعدها على توجيه بعض الضربات العسكرية للأطراف المناوئة لها، حيث تتخذ من الصراع مع الجيش السوري ذريعة لتوحيد أكبر قدر ممكن من المليشيات والمجموعات الإرهابية تحت قيادتها.
وقد استندت روسيا في الفترة الأخيرة إلى الهجمات المتكررة التي تقول أن الهيئة تقوم بشنها ضد قاعدة حميميم لتأييد تدخل النظام عسكريًا في إدلب بعد الضربات الجوية التي شنتها على مواقعها. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 8 مايو الجاري: "هل تعرفون ما هو الوضع في إدلب؟، تم إخفاء جبهة النصرة تحت مسمى جديد هو "هيئة تحرير الشام" التي لا تسيطر فقط على الوضع هناك، بل تقصف مواقع الجيش السوري والمناطق السكنية، وفي الآونة الأخيرة قصفت قاعدة حميميم، وبالطبع تلقوا ردًا وسوف يتلقون الرد".
ومع ذلك، فإن التدخل عسكريًا في إدلب سوف يواجه عقبات عديدة، أهمها الضغوط التي سوف تمارسها أطراف معينة لمنع ذلك، حيث ستستند إلى أن ذلك يتناقض مع الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية ويمكن أن يفرض أزمة إنسانية جديدة، باعتبار أن إدلب تضم ما يتراوح بين 2.5 و3 مليون سوري.